من يشهد تهافت العالم، حكومات وأفراد، على شراء الذهب يخال أسعاره منخفضة، فالتهافت يعكس محاولات اقتناص الفرص لتحقيق المكاسب. غير أن الواقع أن أسعار الذهب تحلّق منذ أسابيع وتكسر أرقاماً قياسية لم يشهدها العالم يوماً. ولا نتحدّث عن حكومات ومستثمرين فحسب بل عن أفراد من مختلف الفئات الاجتماعية ومنهم محدودي المداخيل، هؤلاء تحديداً منهم من ركب موجة الإقبال على شراء الذهب ومنهم من سارع إلى بيع مدخراته من المعدن الأصفر، ولأن السوق في لبنان اليوم تزدحم بالشارين والبائعين على السواء، لا بد من طرح سؤال هل الوقت ملائم اليوم للشراء أم مبيع الذهب؟.

ارتفاع وإقبال

انطلق سعر الذهب منذ مطلع العام الجاري صعوداً من دون أي تردّد. كسر أرقاماً قياسية كان آخرها، وليس الأخير، سعر 3300 دولاراً للأونصة سجّلها اليوم في 16 نيسان بعد أن تحرّك في الأيام الماضية في محيط  3225 دولاراً وهو مستوى مرتفع جداً مقارنة بما كان متوقعاً قبل العام 2025.

وعلى الرغم من الارتفاع الهائل بأسعار الذهب لم يتردّد الكثيرون من شرائه واقتناء الأونصات والليرات ومختلف أحجام السبائك، وبحسب أكثر من تاجر ذهب في بيروت فإن الطلب على شراء الذهب الخالص غير المُصاغ ارتفع كثيراً في الأشهر الأخيرة، وسط إقبال ملحوظ في الوقت عينه على بيع الذهب استغلالاً لارتفاع الاسعار.

وبالنظر إلى ارتفاع حركة الشراء والمبيع في لبنان على السواء تزامناً مع الفورة العالمية للذهب، لا بد من الإمعان في أسباب القفزات التي يحقّقها الذهب ومقاربتها لجهة مدى استمراريتها. فاحتمال استمرار الأسباب الدافعة بالذهب إلى الارتفاع قد تأخذ إلى ترجيح مواصلة المعدن الأصفر الصعود إلى مستويات قياسية جديدة على المدى المنظور.

أسباب الارتفاع

منذ بداية العام الحالي أظهرت أسعار الذهب اتجاهاً صعودياً متماسكاً لأسباب وعوامل عديدة تصدّرتها خلال الأشهر الأولى من العام، المخاطر الجيوسياسية التي دفعت الحكومات إلى زيادة احتياطاتها من الذهب وتزايد التوترات التجارية بالعالم وارتفاع معدلات التضخم وزعزعة الاقتصاد العالمي. وبلغت المخاوف العالمية ذروتها حين فجّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب حرباً تجارية في العالم وركّزها مع الصين تحديداً.

حين أعلن ترامب عن فرض سلة الرسوم الجمركية على غالبية دول العالم اشتعلت أسواق أوروبا وآسيا وازداد إقبال المستثمرين على الذهب وتحوّلت الأنظار إلى الملاذ الآمن. وعلى الرغم من تعليق ترامب تطبيق الرسوم الجمركية لمدة 90 يوماً لم تتمكّن الاسواق من تنفّس الصعداء إذ حبست أنفاسها أكثر بسبب تركّز الحرب التجارية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين حين تحدّت الأخيرة قرار رفع الرسوم وبادلته بالمثل.

ومع اشتعال فتيل الحرب التجارية انطلقت أسعار الذهب من جديد صعوداً وأضيفت إلى العوامل الدافعة لارتفاعه، وتشير الحرب التجارية الناجمة عن الرسوم الجمركية الأميركية والسياسات النقدية للمجلس الاحتياطي الفدرالي (المركزي الأميركي) رغم توقّف انخفاض أسعار الفائدة إلى تعزيز الطلب على الذهب. كل تلك العوامل دفعت الحكومات إلى مزيد من الإستحواذ على المعدن الاصفر الذي بات يتصدّر كافة الاحتياطات كملاذ آمن في حالات عدم اليقين، وتشكّل حالة عدم اليقيمن السمة الأبرز للاقتصادات العالمية في المرحلة الراهنة.

توقعات الأسعار

كل ما سبق ذكره من أسباب وعوامل من شأنه أن يدفع بأسعار الذهب إلى الارتفاع، لاسيما أن الرسوم الجمركية الأميركية لا تزال قائمة مع تعليق تطبيقها إلى جانب احتمال تصاعد حدة الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة وتزايد التوترات الجيوسياسية ومنها ما قد ينجم عن فشل المفاوضات الأميركية الإيرانية المحتمل.

ولأن العوامل الداعمة لارتفاع أسعار الذهب قائمة ويرجّح استمرارها إلى أمد متوسط بالحد الأدنى، عدّلت العديد من المؤسسات الدولية توقعاتها حيال أسعار الذهب، ومن 3000 دولار و3200 دولار للأونصة ارتفت التوقعات إلى 3500 و3700 دولاراً و4000 دولار..

وقد رفع بنك غولدمان ساكس توقعاته لسعر الذهب بنهاية عام 2025 إلى 3700 دولاراً للأونصة، ارتفاعاً من 3300 دولار، مع توقعات بتحرك السعر ضمن نطاق يتراوح بين 3650 و3950 دولاراً، وذلك في ظل طلب أقوى من المتوقع من البنوك المركزية وزيادة تدفقات صناديق الاستثمار المتداولة وسط تصاعد مخاطر الركود. من جهته UBS ودويتشه بنك و بلومبرغ إنتليجنس رفعوا توقعاتهم لأسعار الذهب إلى محيط 3700 دولار و4000 دولار للأونصة حتى بداية العام 2026.

واستناداً إلى التوقعات العالمية من المتوقع أن تستمر حركة شراء الذهب لمن يستهدف الإدخار وتحقيق مكاسب مستقبلية، مع الأخذ بالاعتبار احتمالية مرور الذهب في عملية تصحيحية غير مستبعدة. ففي العام 2008 تراجع الذهب بعد ارتفاعات هائلة بسبب الأزمة المالية العالمية، وبين عامي 2011 و2015 تراجع الذهب من محيط 1920 دولاراً إلى محيط 1000 دولار بسبب ترقّب رفع أسعار الفائدة الأميركية وفي العام 2021 تراجع الذهب من أكثر من 2000 دولار إلى محيط 1600 دولار للأونصة ثم سلك مساراً صعودياً.

ولأن مخاوف الركود واحتمال ارتفاع الطلب على الدولار الأميركية بحسب بعض التوقعات قد تدفع أسعار الذهب إلى التراجع غير أن معظم التقارير الدولية ترى باحتمال تراجع سعر الأونصة مجرّد حركة تصحيحية قد يسجّلها الذهب قبل أن يستعيد انطلاقته مجدّداً.