في عصر ثلاثاء عادي، حدث ما لا يمكن تصوّره. بينما كان المئات يمدّون أيديهم إلى أجهزة البيجر الخاصة بهم، فجأة، تحوّل كل جهاز إلى كيان معادٍ، وانتحر أمام أعين الشباب. وجد الناس أنفسهم منقطعين عن الاتصال، محاصرين في عالمٍ تحوّل فيه رفيقهم الرقمي إلى ألد أعدائهم. وبعد استيعاب الصدمة، ظهرت الحقيقة المرعبة: لم يكن هدف العدو الصهيوني إلحاق الأذى بالجسد المقاوم فقط، بل أراد ضرب عملية تحولهم الرقمي، وتلويث كلمة «تكنولوجيا» في أذهانهم
تعتمد صناعة الشرائح المتقدمة والأجهزة الإلكترونية على توزيع عمليات الإنتاج والتوريد بين دول عدة حول العالم، إذ يتألف كلّ جهاز من مكوّنات مصدرها بلدان مختلفة. على سبيل المثال، تحصل الشركات على تصميمات الشرائح من الولايات المتحدة، بينما تُصنع الشرائح الدقيقة والمتقدمة في تايوان. وتوفر شركة ASML الهولندية المعدات اللازمة لتصنيع هذه الشرائح، في حين تقدم اليابان والصين المواد الكيميائية الضرورية. ويجري الحصول على بقية المكونات من دول أخرى، ليجمع الجهاز النهائي في بلد مختلف، ثم يُشحن عبر شبكات التجارة الدولية.في ظل هذا التعقيد العالمي لصناعة الأجهزة الرقمية، يبدو أنّ العدو الصهيوني قد استغلّ هذه السلسلة، مستهدفاً نقاط الضعف فيها. كما هو معروف، تعتمد المقاومة في بعض الأحيان على أجهزة البيجر للتواصل، لكونها من الأجهزة الإلكترونية التي تنطوي على مخاطر أقل في ما يتعلّق بالتنصت والتتبع. ومع إدراك العدو لهذه الحقيقة، حدث ما حدث.
تُظهر الأحداث الأخيرة في لبنان، ولا سيما تلك المتعلقة باستهداف المقاومة عبر الإلكترونيات، بُعداً أعمق يتجاوز مجرد ضرب عناصر المقاومة. رغم أن الهدف المباشر قد يبدو تعطيل الاتصالات والتأثير على قدرة المقاومة في ميدان المعركة، إلا أن التحليل الأعمق يكشف عن رسالة استعمارية متجدّدة تهدف إلى التأكيد على أنّ التكنولوجيا الحديثة، بما فيها الأدوات الرقمية والأجهزة الإلكترونية المتقدمة، ستبقى تحت سيطرة المستعمر، وأن استخدامها بشكل مستقل هو تحدٍ يُعاقب عليه.
فالتكنولوجيا، بقدر ما تُمثل تقدماً علمياً، هي أيضاً سلاح في يد القوى الكبرى. ليست مجرد أداة للحرب، لكنها وسيلة لترسيخ الهيمنة الاقتصادية والسياسية. لطالما سعت القوى الاستعمارية في الماضي إلى احتكار الصناعات الحيوية والموارد الطبيعية، واليوم تُعيد هذه القوى الإستراتيجية نفسها، ولكن عبر احتكار المعرفة والتقنيات الرقمية. فالشرائح المتقدمة وأجهزة الاتصال والمراقبة لم تعد فقط أدوات للاستخدام المدني أو العسكري، بل أصبحت رموزاً للقوة والسيطرة. وفي هذا السياق، يستمر العدو الصهيوني في إظهار أن أي محاولة لاستخدام هذه التقنيات بشكل مستقل أو لخدمة أهداف مناهضة للاستعمار تُقابل بالعقاب.
البيجر الذي كان يُعتقد أنه أقل عرضة للتنصت والتتبع بسبب بساطته التقنية مقارنة بالأجهزة الأكثر تطوراً، أصبح هو الآخر في مرمى الأعداء. هذا الاختراق لم يكن فقط لضرب البنية التحتية للمقاومة، بل لبعث رسالة أوسع مفادها أنّ التكنولوجيا ـــ مهما كانت بدائية أو معقدة ـــ ستظلّ تحت سيطرة المستعمر. واستخدامها من قِبَل الشعوب المقاومة، يُعدّ تحدياً للهيمنة التي تسعى القوى الكبرى إلى فرضها.
الاستعمار الجديد، وإن اختلفت أدواته، لا يزال يعتمد على المبادئ القديمة نفسها: السيطرة على الموارد والإبقاء على الشعوب الأخرى في حالة تبعية دائمة. وما حدث في لبنان هو تذكير آخر بأنّ هذه القوى لن تتوقف عن استخدام أي وسيلة لضمان استمرار تفوّقها. فالتكنولوجيا ليست سوى إحدى هذه الوسائل، وهي تُستخدم اليوم لتعزيز السيطرة، كما كان النفط والمواد الخام في الماضي. بالتالي، ما حدث في لبنان لا يعبر فقط عن صراع بين المقاومة والعدو على أرض المعركة، بل هو جزء من صراع أكبر حول من يمتلك الحق في استخدام التكنولوجيا. في هذا الصراع، تُذكِّر القوى الكبرى الجميع بأنّ التفوق التكنولوجي يجب أن يبقى حكراً عليها، وأن أي محاولة لتجاوزه ستقابل بالقوة.
ما حصل في لبنان ليس مجرد استهداف لمجموعة من الأشخاص أو لأداة اتصالات بسيطة، بل هو تلويث ممنهج للتكنولوجيا نفسها، التي يُفترض أن تكون أداة لتحسين حياة البشر وليس سلاحاً لقمعهم. التكنولوجيا التي نستخدمها اليوم، من شرائح دقيقة إلى أجهزة اتصال متقدمة، بُنيت على وعود كبيرة: تعزيز الاتصال، تمكين الأفراد، وتقريب المسافات بين البشر. لكن عندما تُستخدم هذه الأدوات المدنية للسيطرة والقمع، تتحول من وسائل للتقدم إلى أدوات للهيمنة والتبعية. وهنا يكمن الخطر الحقيقي: تحويل التكنولوجيا إلى سلاح استعماري حديث.
هذا الأمر مدعاة للتفكير الجاد من قبل عمالقة التكنولوجيا، وخصوصاً أولئك الذين يسعون إلى تحويل وادي السيليكون ليصبح بمثابة قطب عالمي جديد. فما الذي يُعيد ثقة الناس بكل الأجهزة الإلكترونية من حولهم، ولا سيما الهواتف الذكية وأجهزة التدخين من دون احتراق والساعات الذكية وكل أجهزة إنترنت الأشياء؟ إيلون ماسك، الذي يسعى عبر مشروع «نيورالينك» إلى زرع شرائح في أدمغة الناس لتحسين قدراتهم العقلية وربطهم بالشبكة الرقمية، عليه أن يدرك أنّ هذه الهجمات على التكنولوجيا، تهدّد الأسس التي يقوم عليها هذا الطموح. إذا كانت التكنولوجيا تُستخدم لضرب حقوق الإنسان الأساسية، كحق التواصل الآمن والمستقل، فإن ذلك يضرب في صميم أهداف هذه الابتكارات. على ماسك وزملائه في قطاع التكنولوجيا أن يشجبوا بشدة هذا الهجوم. إن تحول التكنولوجيا من أداة للتواصل إلى وسيلة للسيطرة والقمع هو تهديد لكل الابتكارات المستقبلية. إذا سكت هؤلاء العمالقة عن هذه الانتهاكات، فإنهم يُخاطرون بتلويث سمعة التكنولوجيا نفسها وتشويه صورتها كـ «قوة للخير».
رغم الهجمات ومحاولات الاستهداف المتكررة، فإن ما حصل لن يثني المقاومة عن المضي قدماً في مسار التحول الرقمي الآمن. إذ تدرك المقاومة تماماً أهمية التكنولوجيات الحديثة، وتعمل على تطوير قدراتها في هذا المجال بشكل مستمر. ليست المقاومة بعيدة عن تقنيات الذكاء الاصطناعي، بل إنها على وعي عميق بأهمية هذه التقنيات في تعزيز إستراتيجياتها وتطوير وسائل مبتكرة للتواصل الآمن بعيداً من الاختراقات. كما أن تطوير أدوات تعتمد على الذكاء الاصطناعي ليس فقط للحفاظ على الأمن الرقمي، لكن أيضاً لتمكين المقاومة من التفاعل مع التكنولوجيا المتقدمة بطرق تحافظ على استقلاليتها وتضمن عدم الوقوع في فخ الهيمنة التقنية. التحول الرقمي الآمن ليس خياراً، بل ضرورة في ظل الحروب التكنولوجية المتصاعدة، والمقاومة واعية لذلك ومصمّمة على مواجهة هذا التحدي بكل الوسائل المتاحة.