بنبرةٍ تشبه الإملاءات الفوقيّة المتعجرفة، قدّم أمين عام جمعيّة المصارف فادي خلف رؤيته لمعالجة فجوة الخسائر المصرفيّة خلال "المرحلة المقبلة". كان ذلك في افتتاحيّة التقرير الشهري الذي نشرته الجمعيّة هذا الأسبوع، الذي بات منبرًا تقدّم فيه الجمعيّة طروحاتها من دون مواربة. هكذا، تكرّرت في كل زاوية من مقال خلف عبارات مثل: "من الضروري"، و"من المفترض"، و"ذلك غير مقبول"، و"لا يمكن"، و"لا بد"، و"يجب أن"... إلخ. النبرة الصارمة والحادّة التي تكلّم بها خلف، ومن موقع قوّة، إن لم نقل استقواء، كانت موجّهة للسلطات اللبنانيّة، بعد مرور البلاد بمرحلة "التغيير السياسي". هكذا، استكملت الجمعيّة النمط السابق نفسه الذي اعتمدته خلال مرحلة حكومة ميقاتي، القائم على مخاطبة الدولة بفرمانات مكتوبة من هذا النوع.

لم تكن لهجة المقال غريبة عن أدبيّات جمعيّة المصارف، كما عكستها بيانات و"فرمانات" الجمعيّة السابقة. غير أنّ البعض استغرب توقيت المقال، الذي اتخذ لهجةً صارمة إزاء حكومة لم تنل حتّى ثقة المجلس النيابي. ثمّة ما تستقوي به المصارف إذًا، لتصعّد نبرتها بهذا الشكل. بعد ساعات قليلة، بان ما يفسّر ذلك، إذ تسرّبت مراسلة داخليّة، يوجّهُ فيها مجلس إدارة الجمعيّة المصارف الأعضاء لتقديم دعاوى على الدولة اللبنانيّة، على خلفيّة امتناعها عن تسديد سندات اليوروبوندز. إنّها الحرب القانونيّة إذًا، كما فهم المذكّرة كل من يعرف أبعاد وتبعات خطوة من هذا النوع. المصارف لا تلعب، وهي بدأت ضربتها الاستباقيّة في وجه الحكومة قبل أن يمتلك الوزراء صلاحيّاتهم الدستوريّة الكاملة.

طعنة في الظهر

هي طعنة في ظهر لبنان، كما تشير كل أحداث الأشهر السابقة. في شهر آذار المقبل، تكون قد مرّت خمس سنوات على تخلّف الدولة عن سداد سندات اليوروبوندز، أي سندات الدين بالعملة الأجنبيّة. وهذا ما يعني خسارة الدائنين، ومنهم المصارف، لحقوقهم بفوائد السندات، إذا لم يباشروا بإجراءات المطالبة القانونيّة بهذه الفوائد.

طبعًا، لم تكن الدولة اللبنانيّة تريد هذه الحرب. ومصلحة لبنان، الدولة والمجتمع، كانت في التفاهم على إعادة هيكلة هذه الديون. ولذا قرر مجلس الوزراء في مرحلة حكومة ميقاتي تمديد هذه المهلة. أي بلغة قانونيّة، قرّر المجلس تعليق حق الدولة اللبنانيّة بالإدلاء بدفوع مرور الزمن المهل، لإفقاد حملة السندات حقّهم بالفوائد. لقد بات حملة السندات، ومنهم المصارف، محصّنين من هذا الناحية. ولا داعي أبدًا للحرب القانونيّة هذه.

إلا أنّ جمعيّة المصارف لم تكن تريد "السلم" على ما يبدو. فاختارت توجيه هذه الضربة للبنان، الدولة والمجتمع، عبر بدء إجراءات رفع الدعاوى على الدولة. ولمن لا يعرف، فالمرجع القانوني الصالح لهذه المطالبات هو محاكم نيويورك، وليس لبنان. وسيكون على الدولة الدفاع عن نفسها هناك.

برّرت المصارف، عبر أوساطها الإعلاميّة، هذه الخطوة. فقالت أنّها تحاول حفظ حقوقها، وتاليًا حقوق المودعين، من خلال هذه الدعوى.

ثمّة خفّة وتضليل لا يمكن احتمالهما في هذا الزعم. فقيمة سندات اليوروبوندز في ميزانيّات المصارف المجمّعة اليوم، لم تعد تتخطى الـ 2.21 مليار دولار أميركي، بعد احتساب مؤونات خسائرها. وفجوة الخسائر، التي تحول دون تسديد الودائع، تخطّت الـ 73 مليار دولار أميركي، وفق آخر الخطط الحكوميّة. تحصيل الـ 2.21 مليار دولار، إذا تم، لن يؤثّر على أزمة القطاع العامّة. هذا غير صحيح.

لكن الدعوى ستؤثّر على المودعين سلبًا بشكلٍ آخر. هل يمكن اليوم إقناع حملة السندات الأجانب بعدم رفع دعاوى مماثلة، إذا وجدوا أن حملة السندات المحليين –الأكثر قدرة على التفاهم مع الدولة- قاموا بهذا الأجراء؟ وكيف سيكون وضع الدولة عندما تتزاحم وتتسابق الدعاوى القانونيّة ضدها، في محاكم نيويورك؟ وحين يتنافس الدائنون على نهش لحمها أو محاولة الوصول لأصول المصرف المركزي نفسه؟

القيمة الإجماليّة للسندات تتخطّى اليوم الـ 45.3 مليار دولار أميركي، مع الفوائد. وحقوق المصارف لا تتجاوز الـ 2.21 مليار دولار، بحسب الميزانيّات. ألأجل هذه القيمة، تورّط المصارف الجمهوريّة في لعبة خطيرة من هذا النوع؟ وهل هذه فعلاً مصلحة المودعين، أو مصلحة أي لبناني بالمطلق؟

إنها الحرب. ولا يمكن تفسير ما جرى بغير هذه الكلمة. والمصارف تعرف جيّدًا معنى ما تقوم به. إذ أنّ فوز الدائنين بدعاوى ضد لبنان، سيفقد الدولة القدرة على فرض تفاهم لإعادة هيكلة الدين السيادي، بمجرّد الاتفاق مع نسبة من دائني كل شريحة من السندات. لقد طعنت المصارف الحكومة الجديدة في الظهر، قبل أن تحاول الحكومة حتّى التفاوض على خطّة جديدة للتعافي المالي. ووضعت المصارف لبنان، الدولة والمجتمع، في مأزق.

كل ما سبق ذكره، يمكن أن لا يحدث، إذا لعبت الحكومة الجديدة أوراقها، وحالت دون استكمال جمعيّة المصارف مخططها هذا. ولهذا البحث صلة لاحقًا.

ماذا تريد المصارف؟

لماذا تفتح المصارف حربًا ضروسًا ومدمّرة، ضد لبنان، طالما أن قيمة محفظتها من سندات اليوروبوندز هامشيّة، قياسًا بحجم خسائرها؟ لما تورّطنا بمواجهة قانونيّة من هذا النوع، رغم علمها بالتداعيات المدمّرة على خطّة التعافي المالي، التي يفترض أن تعالج الإطار الأوسع من الخسائر؟ ولماذا تزيد الحظوة القانونيّة للدائنين، والتي ستكون حتمًا على حساب الوضع المالي الداخلي، والذي يرتبط بدوره بأزمة المودعين؟

حسنًا، المسألة بسيطة. ستكون الحكومة الجديدة أمام استحقاق النظر بخطّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، التي ستبت بمصير رساميل أصحاب المصارف. وللمصارف رؤيتها، التي عبّر عنها خلف في مقالته الناريّة والفوقيّة، والقائمة على مبدأ "مسؤوليّة الدولة" في معالجة أزمة الودائع. و"مسؤوليّة الدولة"، لمن لا يعرف، تعني تحويل الودائع إلى ديون عامّة معلّقة، لن يتم تسديدها يومًا، وضمن صندوق خاص يمكن تسميته بـ "استرداد الودائع" أو "الصندوق السيادي" أو أي تعبير آخر، طالما أن روحيّته واحدة: دفن الودائع في مقبرة جديدة.

هذا ما تعنيه "مسؤوليّة الدولة" لمن لم يفهم ما يقوله خلف. وهذا طبعًا ليس تجنيًا أو تحليلًا أو سوء فهم. بل هو الخطّة الأساسيّة التي نشرتها الجمعيّة عام 2020، في مواجهة الإصلاحات التي طلبها صندوق النقد الدولي، وضد أي توجّه لإعادة هيكلة القطاع بشكل جدّي. وبعد سنوات من الانهيار المصرفي، تسلّلت بعض هذه الأفكار إلى آخر الخطط الحكوميّة، تحت عنوان صندوق "استرداد الودائع". وهذه بالتحديد الفكرة التي يتبناها وزير الماليّة الحالي ياسين جابر، والتي يتحدّث عنها بكل ثقة.

إذًا، هي حرب لأجل أصحاب المصارف. ومن العبث القول بأن مصلحة المصارف والمودعين سواء في هذه المعركة، كما تشير بعض العناوين الغريبة. ما تريده المصارف هو قدسيّة رساميلها، وملكيّات أصحابها. وما تريده هو الحؤول دون أي مسار لإعادة الهيكلة، يمكن أن يفضي إلى فتح الدفاتر والتدقيق بأسباب الفجوة وخلفيّتها. تحويل الودائع إلى دين عام، هو الحل الأنسب لها ولأصحابها. ومناورتها القانونيّة الجديدة، ستكون مكلفة على الدولة اللبنانيّة، وعلى المودعين أيضًا.

ماذا ستفعل الحكومة اللبنانيّة خلال الأيام المقبلة، أمام حربٍ من هذا النوع؟